تعتبر شخصية الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب من أكثر الشخصيات السياسية المثيرة للجدل على الصعيد العالمي، لا سيما في الأوساط الكوردية. يعود ذلك إلى تأثير السياسات الخارجية للولايات المتحدة في تحديد مسار ومستقبل الشرق الأوسط بشكل عام، وبلاد الرافدين وشعوبها بشكل خاص. تزايد هذا التأثير نتيجة للثورات الفاشلة والأخطاء الاستراتيجية التي جعلت المنطقة مرتعًا للإرهاب المحلي والعالمي، وبؤرة للتطرف الديني والطائفي والعرقي، مما أفقد شعوبها القدرة على إيجاد حلول تضمن حقوق المواطنة

ترامب بين عامي 2017 و2021

في فترة رئاسته الأولى، كانت علاقة ترامب مع الكورد متأرجحة. بدايةً، شهدت العلاقة تعاونًا وثيقًا، خصوصًا مع قوات سوريا الديمقراطية (SDF) وحكومة إقليم كردستان في حربهما ضد تنظيم داعش. لعبت قوات سوريا الديمقراطية دورًا كبيرًا في دحر التنظيم في شمال شرق سوريا، ما عزز من مكانة الكورد كحليف موثوق للتحالف الدولي. ومع تزايد النفوذ المتطرف، أثبتت هذه القوات جدارتها وسط انهيار فصائل المعارضة السورية.

إلا أن ترامب أثار استياء الكورد عندما قرر سحب القوات الأمريكية من بعض مناطق روجافا، مما فتح المجال لتركيا لشن عمليات عسكرية ضد الكورد، وهو ما اعتبره الكورد خيانة، لا سيما بعد التضحيات التي قدموها في الحرب ضد داعش. بالإضافة إلى ذلك، تخلَّى ترامب عن دعم حكومة إقليم كردستان بعد استفتاء الاستقلال في 2017، ما أدى إلى خسارة كركوك وأضعف موقف الإقليم أمام بغداد.

قراره بسحب القوات لم يكن فقط خطوة غير متوقعة، بل أثار تساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها، وخصوصًا الأقليات العرقية التي لطالما اعتمدت على الدعم الغربي لضمان حقوقها. وبالرغم من الانتقادات الواسعة، دافع ترامب عن قراره بالقول إنه يفي بوعده بإنهاء “الحروب التي لا تنتهي” وإعادة القوات إلى الوطن. هذا الموقف وضع الكورد في موقف صعب، إذ كان عليهم الاختيار بين مواجهة الهجمات التركية أو اللجوء إلى اتفاقات محدودة مع النظام السوري

مستقبل ترامب في الشرق الأوسط الجديد

في 7 أكتوبر 2023، شهد الشرق الأوسط حدثًا مشابها لأحداث 11 سبتمبر، قلب سياسات المنطقة رأسًا على عقب. لم يعد التيار الشيعي يمثل حاجزًا ضد الإرهاب السني، بل أصبح هو نفسه قوة متطرفة تهدد الاستقرار الإقليمي. تزامن هذا مع ازدياد التهديدات الإيرانية للأمن القومي الإسرائيلي، ما دفع الولايات المتحدة، تحت إدارة بايدن، إلى منح إسرائيل الضوء الأخضر لمواجهة أذرع إيران في المنطقة.

إسرائيل، رغم قوتها العسكرية، تدرك أنها لا تستطيع الاستمرار دون حل يضمن الاستقرار الإقليمي، ما يفتح الباب أمام تحالفات جديدة. وفي هذا السياق، قد تكون هناك فرص للتقارب بين الكورد وإسرائيل، رغم أن التحالف الإسرائيلي-التركي يظل أقوى. ومع ذلك، تتزايد الدعوات الإسرائيلية لدعم استقلال كوردستان، وهو ما قد يتعزز بعودة ترامب إلى السلطة.

ومن المتوقع أن تكون استراتيجياته موجهة نحو تقليص النفوذ الإيراني، مما قد يدفعه لدعم الحلفاء الإقليميين مثل الكورد لضمان توازن القوى في المنطقة. قد يركز ترامب على دعم مشاريع اقتصادية واستراتيجية يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الاستقرار، مثل خطوط نقل الطاقة والطرق التجارية التي تمر عبر المناطق الكوردية

دور الكورد في المرحلة القادمة

بعد التغيرات الجيوسياسية الأخيرة، يمكن أن ينظر الكورد إلى إدارة ترامب المقبلة كفرصة لاستعادة المبادرة. فمن المتوقع أن تركز سياسات ترامب على حماية مصالح إسرائيل وضمان الطرق التجارية الجديدة. هنا تأتي فرصة الكورد لتقديم أنفسهم كحليف ديمقراطي يتبنى المشروع الغربي في المنطقة، مما قد يعيد الزخم إلى طموحاتهم في الاستقلال، مع الاستفادة من التجربة السابقة لاستفتاء 2017.

رغم هذه الفرص، يبقى الوضع معقدًا. هناك حاجة إلى قيادة كوردية موحدة تستفيد من الأخطاء السابقة. قد يتمثل هذا في تقديم مبادرات دبلوماسية تعزز من الحوار مع الدول المؤثرة مثل تركيا وإيران، مع الحفاظ على دعم الولايات المتحدة وإسرائيل. يلعب التنسيق الدبلوماسي دورًا كبيرًا في تعزيز موقف الكورد، لا سيما مع بروز دورهم كوسيط محتمل في النزاعات الإقليمية.

من ناحية أخرى، يتوجب على الكورد تجنب الاعتماد الكامل على دعم القوى الكبرى، إذ إن التحولات في السياسة الأمريكية قد تكون سريعة وغير متوقعة. في هذا السياق، يجب عليهم بناء تحالفات إقليمية مستدامة تستند إلى المصالح المشتركة. وقد يكون استثمار العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الجيران أحد السبل لتحقيق ذلك

التحديات التي تواجه الكورد

رغم كل الفرص المحتملة، يواجه الكورد تحديات جسيمة. التحدي الأول يتمثل في التوازن بين الطموح للاستقلال والواقع السياسي المعقد. الدعم الأمريكي قد يأتي مشروطًا بمصالح تتجاوز الطموحات الكوردية، مما يتطلب قيادة تعرف كيف تستفيد من الفرص دون أن تتحول إلى أداة لخدمة مصالح القوى الخارجية.

التحدي الثاني هو موقف تركيا، التي تعتبر أي تحرك نحو الاستقلال تهديدًا لأمنها القومي. سياسات تركيا تجاه الكورد لم تتغير بشكل جذري عبر السنين، وهي مستعدة لاستخدام القوة للحفاظ على نفوذها. لهذا، تحتاج القيادات الكوردية إلى استراتيجيات تُقنع تركيا بأن تحقيق مصالح الكورد لا يتعارض مع استقرار المنطقة.

من جهة أخرى، يظل التحدي الإيراني قائمًا. إيران، التي تواجه تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، قد تنظر إلى أي تعزيز للموقف الكوردي كتهديد مباشر لنفوذها في العراق وسوريا. وهذا قد يدفعها لدعم تحركات مضادة تهدف إلى زعزعة الاستقرار في المناطق الكوردية

نظرة على الاستراتيجية الأمريكية المستقبلية

السياسات التي قد يتبناها ترامب تجاه الكورد في حال عودته للرئاسة ستكون معقدة ومبنية على حسابات دقيقة. فقد يسعى ترامب إلى بناء تحالفات تتناسب مع استراتيجيته القائمة على تقليص التواجد العسكري الأمريكي المباشر، مع تعزيز الدور الاقتصادي والسياسي لحلفائه المحليين. هذا قد يترجم إلى دعم أكبر للكورد، لكن بشروط تتعلق بتقديم مساهمات ملموسة تخدم الأهداف الأمريكية في المنطقة.

التحليل الدقيق يشير إلى أن ترامب قد ينظر إلى الكورد كحليف رئيسي ضمن خطط أوسع تشمل احتواء إيران، وتعزيز مسارات التجارة الإقليمية، وضمان أمن إسرائيل. في الوقت نفسه، يجب أن تكون القيادات الكوردية حذرة من تكرار أخطاء الماضي؛ إذ إن الدعم المشروط قد ينتهي عندما تتغير أولويات واشنطن.

يمكن لترامب أن يلعب دورًا كبيرًا في دعم القضية الكوردية في ظل التطورات الجيوسياسية الأخيرة. لكن تحقيق هذا يتطلب من القيادات الكوردية استعدادًا استراتيجيًا وتوظيف الفرص بحذر، مع إدراك العواقب المحتملة في خضم لعبة المصالح الإقليمية والدولية. الفهم العميق للعبة السياسية والتكيف مع التغيرات السريعة سيظل المفتاح لضمان حقوق الشعب الكوردي في فترة قد تشهد تغيرات حاسمة في موازين القوى الإقليمية والدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *